Wednesday, December 26, 2007

حكاوي قهوة الفيشاوي (1)

حكاوي الفيشاوي
منير الفيشاوي
يعود تاريخ مقاهي القاهرة إلي مئات خلت من السنين،
حيث كانت قبل القرن السادس عشر الميلادي مجرد أماكن تباع فيها المشروبات الساخنة مثل: القرفة والحلبة والزنجبيل والكركدية ..
ثم خلع عليها لقب أو اسم «المقهي» أو «القهوة» بعد دخول مشروب القهوة إلي مصر عام 905هـ، علي يد أبو بكر بن عبدالله الشهير بالعيدروس ..
حيث ذاع صيت هذا المشروب الجديد بوصفه «فيه تجفيف للدماغ، واجتلاب للسهر وتنشيط للعبادة» .. ولكن ..
علي صعيد آخر .. تسبب مشروب القهوة في إحداث لغط بين الناس آنذاك، فقد حرمه البعض لما رأوا فيه من ضرر،
وآخرون ـ أهمهم المتصوفة ـ تحمسوا له وحللوا احتساءه، حتي حسمت هذه المشكلة بتأييد رأي المتصوفة، فانتشر بعدها في كافة أرجاء مصر المحروسة وأطلق علي الأماكن التي تقوم بإعداد وتقديم مشروب القهوة للزبائن اسم «المقاهي» أو «القهاوي».


وقد تطور مشروب القهوة في تركيبته وطرق إعداده، فابتدع البعض خلطات «تحويجات» من الحبهان وجوزة الطيب ومساحيق عطارة أخري تضاف إلي البن المطحون والمحمص بدرجات متفاوتة، وذلك لاعطائها نكهة خاصة، وكانت القهوة في بداياتها تعد في إناء يدعي «البكرج» والذي استبدل بعد ذلك بـ«الكنكة» الحالية والتي يتم فيها إعداد مشروب القهوة التركي، والتي يفضلها المصريون بوجود فقاعات البن علي سطحها دون غليها، أما مشرقيو العرب فيفضلونها مغلية.

وينقسم مشروب القهوة التركي إلي مذاقين رئيسيين .. مذاق البن الخالص .. ومذاق البن المحوج، ويتفرع كل منهما إلي مذاقات فرعية تتوقف علي درجة تحميص البن «غامق ـ وسط ـ فاتح» وحسب كميات السكر المخلوطة به حسب الرغبة، ولكل منها اسم لدي نادل المقهي:
قهوة سادة «سكيلتو»: زي بدون سكر، قهوة علي الريحة: بسكر قليل جدًا، مظبوط: سكر متوسط، قهوة زيادة: بسكر كثير، قهوة مانو: بسكر ما بين المظبوط والزيادة، قهوة زيادة كعب عالي: بسكر كثر جدًا.
من ناحية أخري .. فقد شهد النصف الثاني من القرن العشرين .. وحتي الآن تطورًا هائلاً في صناعة مشروب القهوة، حتي صارت هناك عشرات من الأنواع المستحدثة لهذا المشروب مثل: نسكافيه، إسبرسو، كابتشينو، لاتيه ... إلخ.

أما الدخان .. فلم يكن أفضل حظًا من مشروب القهوة .. بل علي العكس، فقد تمسك كثير من فقهاء وعلماء المسلمين بتحريمه إبان ظهوره لأول مرة في مصر المحروسة سنة 1012هـ، حسبما ذكر المؤرخ المعاصر «الإسحاقي» بل وكثيرًا ما كان يطارد مدخنيه، فقد ذكر الجبرتي في حوداث سنة 1156هـ «إن الوالي العثماني أصدر أوامره بمنع تعاطي الدخان في الشوارع وعلي الدكاكين وأبواب البيوت، ونزل معه الأغا ونادي بذلك، وشدد بالإنكار والنكال بمن يفعل ذلك، وكان كلما رأي شخصًا بيده الدخان يعاقبه .. وربما أطعمه الحجر الذي يوضع عليه الدخان بما فيه من نار» .. ولكن المتصوفة تعصبوا أيضًا للدخان، كما سبق وتعصبوا للقهوة، وبلغ ولعهم للدخان أوجه، أن نظم شاعرهم أبو الدهب البكري قصيدة في الدخان قال فيها:
هات اسقني التبغ إن نبع الصفا سحرًا
حتي اضرر منه وهو إغشاء
واستجل أنوار شمع من
قد زانه قامة بالحسن هيفاء
لعل نار رأسي بالبعد قد وقدت
يومًا يكون لها بالقرب إطفاء

ومن هنا بدأ انطلاق أدوات التدخين بالمقاهي.، وتطورت من الجوزة إلي الشيشة إلي النرجيلة .. وكلمة النرجيلة مستقاة من كلمة «النار جيل» وهو الاسم الذي يطلق علي ثمار جوز الهند .. وترجمتها الحرفية هي «الجوزة»، أما الشيشة فهي اسم مرادف بمنطقة المشرق العربي وبلاد فارس لـ«البرطمان الزجاجي» .. وهذه التعريفات علي ترتيبها المذكور، توضح ان آلة التدخين بالمقاهي قد بدأت بثمرة جوز الهند المفرغة والمرتبط بها عودان من الغاب طرفاهما السفليان داخل الجوزة، ومغمور أحدهما بالماء، الطويل منها لسحب الدخان، والآخر المغمور يوضع علي طرفه حجر به الدخان وفوقه الجمر .. وتسمي هذه بالجوزة، والتي ما لبثت ان تطورت باستبدال ثمرة جوز الهند المفرغة ببرطمان زجاجي مع ثبات باقي مكونات الجوزة بنفس الوصف والتركيب وسميت «شيشة» .. والتي أيضًا تطورت مع تطور حرفة صناعية وتشكيل الزجاج وزخرفته .. حيث تم استبدال البرطمان .. بفارغة زجاجية اسطوانية عريضة في قاعدتها .. وضيقة في قمتها، يثبت فيها القلب النحاسي، يتفرع عنه مكان وضع الحجر فوق قمة القلب، ومن أوسطه مخرج يرتبط بما يشبه الأنبوب اللين أو الخرطوم المصنوع من الجلد .. ويسمي «ليّْ» .. والذي ينتهي عند مقدمته بمبسم أو فُمّْ مصنوع من الكهرمان أو البلاستيك .. وهو شكل النرجيلة أو «الشيشة» كما يفضل المصريون تسميتها.

وتتعد أنواع التبغ المستخدمة في كل من الجوزة والشيشة والنرجيلة، فتبغ أو دخان المعسل، والذي يتكون من أوراق التمباك المقصوصة قصًا رفيعًا ومخلوطة بالعسل الأسود، يتم تدخينه بواسطة الجوزة والشيشة.

أما في حالة تدخينه بواسطة النرجيلة، فيطلق عليها اسم سريع أو بوري نسبة إلي التسمية الفارسية والعربية المشرقية للأنبوب الجلدي الممتد عبر مبسم إلي الفم .. كما تستخدم النرجيلة أيضًا في تدخين معسل الفواكه حديثًا .. والذي اتسعت تنويعاته لتشمل التبغ المخلوط بالجلسرين وعسل الفواكه مثل: التفاح، الخوخ، الكنتالوب، المانجو، الورد ... إلخ، كذلك تبغ «الجيراك» وهو تبغ مخلوط بالفواكه العطنة مع بعض الزيوت، أما تبغ التمباك، فيتم إعداده عن طريق قص أوراق التمباك ووضعها فوق حجر النرجيلة ولفها بورقة تمباك سليمة منداه بالماء .. ويتنوع التمباك إلي مذاقين .. الهادئ منها حين يوضع في حجر النرجيلة يطلق عليه «شيشة عجمي» .. والحامي منها يطلق عليها «شيشة حمي» أو «حِمِّية» .. وكان النادل يعمم تسمية «نادية» علي هذين النوعين من التمباك، أي يوصي معد الحجر بأن يندي ورقة التمباك السليمة قبل أن يلفها حول التبغ .. صائحًا: «من عندك نادية».

أما أكثر المشروبات شعبية وحظًا .. فهو مشروب «الشاي» .. وهو يعتبر الأكثر حداثة في عالم المشروبات الساخنة، حيث لم يدخل مصر إلا في القرن التاسع عشر الميلادي، وسر حظه انه لم يلق خلافًا من حيث تحريم شربه أو تحليله مثل سابقيه .. فاتفق عليه جموع الناس، وأصبح ذا شعبية جارفة بمصر المحروسة .. وحتي الآن.
وللشاي أنواع رئيسية .. وأخري فرعية، فهناك الشاي الأحمر «العادي»، والشاي الأخضر، والشاي الأبيض «والذي تنفرد مقهي الفيشاوي بتقديمه ومد القصر الملكي به خلال النصف الأول من القرن العشرين» .. ويدعي حاليا شاي «دارجيلينج» .. ويتم إعداد النوعين الثاني والثالث بطريقة عادية .. بوضع مسحوق كل منهما علي المياه المغلية، أما النوع الأول «الشاي الأحمر» .. فهناك العديد من الاسماء له، تتبع كل منها طريقة إعداده وتقديمه، ولها مصطلحات معينة لدي نادل المقاهي شبه متفق عليها مثل:
«مليان واحد»: أي براد صغير مملوء بالشاي، «شاي في الخمسينة» أي شاي في كوب صغير، «كباية مصري» أي شاي في كوب كبير، «شاي كشري» أي بوضع مسحوق الشاي بالكوب ويلقي عليه الماء المغلي، «شاي طيارة» يعد بوضع الماء المغلي بالكوب ثم يتم اسقاط كيس صغير مملوء بالشاي «باكيت» .. «شاي ميستكوفي» يعد بصب الماء المغلي أولاً في الكوب ثم يضاف إليه مسحوق الشاي، «شاي فريسكا» أو «شاي علي ميه بيضا» ويعد بوضع مسحوق الشاي وفوقه السكر بالكوب ثم يصب الماء المغلي عليهما بحرص علي ظهر الملعقة الموضوعة بداخل الكوب .. دون أن يختلط الشاي والسكر بالماء إلا بتقليبهم، «شاي صعيدي» أي شاي ثقيل، «شاي ميزة» وهو شاي معد بالطريقة العادية مخلوط باللبن الحليب بنسب متقاربة، «شاي مه فيه» يعد من اللبن الحليب الخالص الساخن ويخلط به مسحوف الشاي، «شاي بربري» يعد من الشاي الثقيل المخلوط بقليل من اللبن الحليب، أما «سكر بوستة» فهو نداء يلحق أي من الطلبات المذكورة .. ويقصد به وضع السكر في إناء صغير علي حده مجاور للشاي المطلوب .. حسب الرغبة.

من ناحية أخري .. فمقاهي مصر المحروسة اعتادت ـ وحتي الآن ـ اطلاق تسميات حركية علي معظم المشروبات الأخري التي تقدمها للزبائن مثل: القرفة «فانيليا»، السحلب «بندق»، حمص الشام «حلبسة»، كركديه «عناب»، تمر هندي «تمر»، حلبة «حصي/زلط»، الزنجبيل «جنزبيل»، كاكاو «كريمة».

لعبت مقاهي مصر المحروسة دورًا مهمًا في ترسيخ الثقافات الشعبية، حيث كانت مركزًا رئيسيًا لرواية قصص السير الشعبية والملاحم مثل: «السيرة الهلالية» .. والتي تروي مآثر أبو زيد الهلالي سلامة، و«الظاهرية» التي تروي قصة القائد المملوكي الظاهر بيبرس، علاوة علي قصة «الأميرة ذات الهمة» و«الدرة الملكة في فتح مكةالمبجلة»، و«غزوة الإمام علي مع اللعين الهضام بن الحجاف»، و«فتوح اليمن المعروفة برأس الغول».

كما كانت تروي أيضًا بالمقاهي قصص: سيف بن ذي يزن، ألف ليلة وليلةج، سيرة عنترة بن شداد العبسي .. وغيرها، وكان أصحاب المقاهي يستقدمون المنشدين والرواة والحكواتية الذين كانوا يتخذون من موسيقي آلات الطرب كالربابة والعود .. خلفية مصاحبة لرواية وإنشاد السير الشعبية، وقد ساهمت تلك الفعاليات التراثية والشعبية في ترسيخ عادة ارتياد الناس لمقاهي مصر المحروسة للاستمتاع والالتقاء بالأصدقاء، وتجاذب أطراف الأحاديث مع الحاضرين، وتبادل النجوي وخلق الصداقات الجديدة وكسر حواجز الوحدة والملل لدي البعض، وانفاق أوقات الفراغ في لعب الدومينو والطاولة والشطرنج والورق، بل وتعدي الأمر إلي نطاق الإبداع الفني والأدبي .. والالتقاء بوحيهما من خلال التواجد بالمقاهي مثلما كان الحال بالنسبة للشاعرين الكبيرين عبدالحميد الديب «شاعر البؤس» وكامل أمين «صاحب الملحمة المحمدية ذات الـ29 ألف بيت» .. وأديب نوبل نجيب محفوظ «الأستاذ» .. بالإضافة إلي الكاتب الكبير جمال الغيطاني ـ الصديق فوق العادة ـ والذي استقينا قدرًا يسيرًا من المعلومات آنفة الذكر وربما بعضًا من الآتية من حواراتنا معه وكتاباته المتفرقة القيمة وفي مقدمتها كتابه «ملامح القاهرة في ألف سنة».

ومن الثابت تاريخًا أن مصر المحروسة «القاهرة» قد عجت بالمقاهي منذ عدة قرون خلت، فقد ورد بأحد أجزاء موسوعة «وصف مصر» التي أعدها علماء الحملة الفرنسية علي مصر «1798 ـ 1801م» حث جاء به النص التالي حول المقاهي:
«تضم مدينة القاهرة حوالي 1200 مقهي بخلاف مقاهي مصر القديمة وبولاق، حيث تضم مصر القديمة 50 مقهي، أما بولاق فيبلغ تعداد مقاهيها المائة، وليست لهذه المباني أية علاقة بالمباني التي تحمل نفس الاسم في فرنسا إلا من حيث استهلاك البن علي الرغم من ان هذا المشروب يُعدّو يُشرب بطريقة مختلفة، فليس في هذه المباني أثاثات علي الاطلاق، وليس ثمة مرايا أو ديكورات داخلية أو خارجية .. فقط ثمة منصات «دكك» خشبية تشكل نوعًا من المقاعد الدائرية بطول جدران المبني، وكذلك بعض الحصر من سعف النخيل أو أبسطة خشنة الذوق في المقاهي الأكثر فخامة بالاضافة إلي بنك خشبي عادي بالغ البساطة».

كان ذلك وصفًا لمقاهي مصر المحروسة في أواخر القرن الثامن عشر، والذي اضاف إليه المستشرق الانجليزي إدوارد وليم لين في كتابه «المصريون المحدثون» في مطلع القرن التاسع عشر إبان زيارته للقاهرة واقامته بها لفترة طويلة حيث ذكر نصًا: «إن القاهرة بها أكثر من ألف مقهي، والمقهي غرفة صغيرة ذات واجهة خشبية علي شكل عقود، ويقوم علي طول الواجهة ـ ما عدا المدخل ـ مصطبة من الحجر أو الآجر تفرش بالحصر ويبلغ ارتفاعها قدمين أو ثلاثة وعرضها كذلك تقريبا، ويرتاد المقهي أفراد الطبقة السفلي والتجار وتزدحم بهم عصرًا ومساء، وهم يفضلون الجلوس علي المصطبة الخارجية، ويحمل كل منهم شبكه الخاص وتبغه، ويقدم القهوجي القهوة بخمس فضة للفنجان الواحد، أو عشرة فضة للبكرج الصغير الذي يسع ثلاثة فناجين أو أربعة، ويحافظ القهوجي أيضًا بعدد من آلات التدخين من نرجيلة وشيشة وجوزة، وتستعمل هذه الأخيرة في تدخين التمباك والحشيش الذي يباع في بعض المقاهي، ويتردد الموسيقيون والمحدثون علي بعض المقاهي في الأعياد الدينية خاصة...».
ولعل من حسن الطالع ان معظم ما جاء بالوصفين التاريخيين الآنفين بشأن المقاهي ومحتوياتها، يشهد بقدم وعراقة وتاريخ ومعاصرة مقهي الفيشاوي لتلك التفاصيل، حيث ما يزال يحوي بين جنباته وعلي أرففه السقفية، بعضًا مما ورد بالوصفين من أثاث قديم ودكك وأوان نحاسية وأدوات تدخين قديمة، وان أضيفتا إليها المرايا الضخمة المحاطة ببراويز خشبة منحوتة نحتًا بارزًا وتحف نفيسة غاية في الروعة والإبداع الفني والتاريخي .. والتي كانت ذات يوم منذ قرون مضت .. أجزاء من زخارف القصور الملكية في عهود سبقت تزامنت وتلت ولاية محمد علي باشا حكم مصر والتي بدأت في عام 1805، وهي تلك العهود التي صاحبها نشأة وتأسيس وتأثيث وتطور ازدهار ونهضة مقهي الفيشاوي منذ عام 1771 وحتي 1968، ثم المرحلة الثانية من عام 1969 وحتي الآن، تناولتها أيدي تسعة أجيال، توارثت حب المكان والانتماء له فحافظت واضافت أيضًا علي رونقه وتحفه ومقتنياته وذكرياته ووقاره وجوه الساحر الذي ينطق بعبق تاريخ مصر الحديث علي مدي أكثر من قرنين من الزمان مرورًا بأشهر الشخصيات السياسية والأدبية والفنية المصرية والعربية والعالمية التي ارتادته، وأهم الأحداث السياسية والثورية والوطنية التي حلت بالبلاد .. حتي أصبحت جزءًا لا يتجزأ من تاريخ مصر .. بل وهناك من يعتبرها هرمًا رابعًا لمصر ذاتها.

كانت تلك مقدمة للجو العام لمصر المحروسة في الفترة التاريخية التي أحاطت بزمن نشأة مقهي الفيشاوي .. والذي سنبدأ الخوض في تفصيلاتهاوملابساتها اعتبارًا من العدد المقبل .. فما ذكرناه هو «غيض من فيض» .. فإلي اللقاء.


No comments: